الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
الكهان: جمع كاهن، والكهنة أيضا جمع كاهن، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، وتتصل بهم الشياطين، وتخبرهم عما كان في السماء، تسترق السمع من السماء، وتخبر الكاهن به، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة، ويخبر الناس، فإذا وقع مما أخبر به شيء؛ اعتقده الناس عالما بالغيب، فصاروا يتحاكمون إليهم؛ فهم مرجع للناس في الحكم، ولهذا يسمون الكهنة؛ إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل، يقولون: سيقع كذا وسيقع كذا، وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب؛ فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء، كما لوأخبر عن كسوف الشمس أوخسوف القمر؛ فهذا ليس من الكهانة لأنه يدرك بالحساب، وكما لوأخبر أن الشمس تغرب في 20من برج الميزان مثلا في الساعة كذا وكذا؛ فهذا ليس من علم الغيب، كما يقولون:إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب (هالي)، وهونجم له ذنب طويل؛ فهذا ليس من الكهانة في شيء؛ لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب؛ فكل شيء يدرك بالحساب، فإن الإخبار عنه ولوكان مستقبلا لا يعتبر من علم الغيب، ولا من الكهانة. وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أوما أشبه ذلك؟ الجواب: لا؛ لأنه أيضا يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو؛ لأن الجويتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم؛ فيكون صالحا لأن روى مسلم في (صحيحه) عن بعض أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: يمطر، أو لا يمطر، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم والرعد والبرق وثقل السحاب، نقول: يوشك أن ينزل المطر. فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس؛ فليس من علم الغيب، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب، ويقولون: أن التصديق بها تصديق بالكهانة. والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح؛ كما قال السفاريني: فالذي يعلم بالحس لا يمكن إنكاره ولوأن أحدا أنكره مستندا بذلك إلى الشرع؛ لكان ذلك طعنا بالشرع. * * * قوله: (من): شرطية؛ فهي للعموم. والعراف: صيغة مبالغة من العارف، أو نسبة؛ أي: من ينتسب إلى العرافة. والعراف قيل: هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المستقبل. وقيل: هواسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، يدل عليه الاشتقاق؛ إذ هومشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة. قوله: (فسأله؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما). ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوما، ولكنه ليس على إطلاقه؛ فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن يسأله سؤالا مجردا؛ فهذا حرام لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله؛ فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تعالى: القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله؛ فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث. وقد سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن صياد؛ فقال: فقال: (اخسأ؛ فلن تعدوقدرك) القسم الرابع: أن يسـله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجبا. وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمر مطلوب، وقد يكون واجبا؛ فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى. وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس ليست محرمة على كل حال، بل هي على حسب الحال. فالجني يخدم الإنس في أمور لمصلحة الإنس، وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله ولله، ولاشك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس؛ لأنه يجمعهم الإيمان بالله. وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله ـ عز وجل ـ إما في الذبح لهم، أو عبادتهم، أو ما أشبه ذلك. والأغرب من ذلك أنهم ربما يخدمون الإنس لأمر محرم من زنا أو لواط؛ لأن الجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق والتلذذ بالاتصال به، أو العكس، وهذا أمر معلوم مشهود، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك، كما بعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حضر إليه الجن وخاطبهم وأرشدهم، ووعدهم بعطاء لا نظير له؛ فقال لهم: فقالوا: ابحثي لنا عنه. فذهب هذا الجني الذي فيها، وبحث وأخبرهم أنه في مكان كذا، وأنه يسم إبل الصدقة [(أحكام المرجان في أحكام الجان) (ص 38).]. قوله: (فصدقة). ليست في (صحيح مسلم)، بل الذي في (مسلم): (فسأله؛ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)، وزيادتها في نقل المؤلف؛ إما لأن النسخة التي نقل منها بهذا اللفظ (فصدقة)، أوأن المؤلف عزاه أوأن المؤلف عزاه إلى (مسلم) باعتبار أصله، فأخذ من (مسلم): (فسأله)، وأخذ من أحمد: (فصدقه). قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). نفي القبول هنا يلزم منه نفي الصحة أولًا؟ نقول: نفي القبول إما أن يكون لفوات شرط، أولوجود مانع؛ ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفيًا للصحة، كما لوقلت: من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك. وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع؛ فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي: إما نفي القبول التام؛ أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة. وإما أن يُراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان، فتسقطها، ويكون وزرها موازيًا لأجر تلك الحسنة، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة، لكن الثواب الذي حصل بها قوبل بالسيئة فأسقطته. ومثله قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وقوله: (أربعين يومًا). تخصيص هذا العدد لا يمكننا أن نعلله؛ لأن الشيء المقدر بعدد لا يستطيع الإنسان غالبًا أن يعرف حكمته، فكون الصلاة خمس صلوات أوخمسين لا نعلم لماذا خُصصت بذلك؛ فهذا من الأمور التي يُقصد بها التعبُد لله، والتعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد له بما تعرف حكمته؛ لأنه أبلغ في التذلل، صحيح أن الإنسان إذا عرف الحكمة اطمأنت نفسه أكثر، لكن كون الإنسان ينقاد لما لا يعرف حكمته دليل على كمال الانقياد والتعبد لله ـ عز وجل ـ فهومن حيث العبودية أبلغ وأكمل، أما ذاك؛ فهومن حيث الطمأنينة إلى الحكم يكون أبلغ؛ لأن النفس إذا علمت بالحكمة في شيء اطمأنت إليه بلا شك، وازدادت أخذًا له وقبولًا؛ فهناك أشياء مما عينه الشرع بعدد أوكيفية لا نعلم ما الحكمة فيه، ولكن سبيلنا أن نكون كما قال الله تعالى عن المؤمنين: فعلينا التسليم والانقياد وتفويض الأمر إلى الله تعالى. ويؤخذ من الحديث: تحريم إتيان العراف وسؤاله؛ إلا ما استثني؛ كالقسم الثالث والرابع؛ لما في إتيانهم وسؤالهم من المفاسد العظيمة، التي ترتب على وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: تشجيعهم وإغراء الناس بهم، وهم في الغالب يأتون بأشياء كلها باطلة. * * * قوله: قوله: (فصدقة). أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت. قوله: (بما يقول). (ما) عامة في كل ما يقول، حتى ما يحتمل أنه صدق؛ فإنه لا يجوز أن يصدقه؛ لأن الأصل فيهم الكذب. قوله يرويه عن ربه مباشرة والقرآن بواسطة جبريل. ولأنه لو كان من كلام الله لفظًا؛ لوجب أن تثبت له أحكام القرآن؛ لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي؛ فهو لا يُتعبد بتلاوته، ولا يُقرأ في الصلاة، ولا يُعجز لفظه، ولو كان من كلام الله؛ لكان معجزًا؛ لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضًا باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لوجاء مُشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية؛ فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله. فدل هذا على أنه ليس من كلام الله، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظًا. فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينسب القول إلى الله، ويقول: قال الله تعالى، ومقول القول هوهذا الحديث المسوق؟ قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم ... مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم؛ لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نُقل نقلًا عنهم، ويدل هذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم؛ كما قال تعالى: قوله: (بما أنزل على محمد). ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أوأنزل من الله؛ فهي دالة على علوالله ـ سبحانه وتعالى ـ وللأربعة، والحاكم ـ وقال: (صحيح على شرطهما) ـ عن أبي هريرة: بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله؛ لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به. قوله: قوله: (وللأربعة والحاكم). الأربعة هم: أبوداود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم ليس من أهل (السنن)، لكن له كتاب سمي (صحيح الحاكم). قوله: (صحيح على شرطهما)؛ أي: شرط البخاري ومسلم، لكن قول (على شرطهما) هذا على ما يعتقد، وإلا؛ فقد يكون الأمر على خلاف ذلك. ومعنى قوله: (على شرطهما)؛ أي: أن رجاله (الصحيحين)، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه. ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم؛ لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما؛ فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها. قوله: (صحيح). يقولون: الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن حبان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر. وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة؛ لأن كلمة (لا عبرة)؛ أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولًا في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله، ووجدت أنه دائمًا إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهوبهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفسًا إلى وسعها. ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان لا يعرف إلا ما حوله؛ فإن قوله هذا لا يكون إجماعًا ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع. مثاله: فلوقال رجل: لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم؛ فإن قوله هذا لا يعتبر؛ لأنه لم يحفظ إلا قولًا قليلًا من أقوال أهل العلم. قوله: وعن عمران بن حصين مرفوعًا: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو أن تكون للتنويع؛ فالحديث الأول بلفظ عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما؛ فتكون (أو) للتنويع. وجاء المؤلف بهذا الحديث مع أن الأول والثاني مغنيان عنه؛ لأن كثرة الأدلة مما يقوي المدلول، أرأيت لوأن رجلًا أخبرك بخبر فوثقت به، ثم جاء آخر وأخبرك به ازددت توثقًا وقوة، ولهذا فرق الشارع بين أن يأتي الإنسان بشاهد واحد أو شاهدين. وظاهر صنيع المؤلف: أن حديث أبي هريرة: قوله: (ليس منا). تقدم الكلام على هذه الكلمة، وأنها لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام، بل على حسب الحال. قوله: (مرفوعًا)؛ أي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: (تطير). التطير: هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع أوالمعلوم أو غير ذلك، وأصله من الطير؛ لأن العرب كانوا يتشاءمون أو يتفاءلون بها، وقد سبق ذلك [قدم (ص 515).]. أو تكهن له، أو سحر له، ومنه ما يحصل لبعض الناس إذ شرع في عمل، ثم حصل له في أوله تعثر تركه وتشاءم؛ فهذا غير جائز، بل يتعمد على الله ويتوكل عليه، وما دمت أنك تعلم أن في هذا الأمر خيرًا، ولا تشاءم؛ لأنك لم توفق فيه لأول مرة؛ فكم من إنسان لم يوفق في العمل أول مرة، ثم وفق في ثاني مرة أو ثالث مرة؟! ويقال: إن الكسائي ـ إمام النحوـ طلب النحوعدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد إلى الجدار، فتسقط، حتى كررت ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته؛ فقال: سبحان الله! هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت، إذن أنا سأكابد على النحوحتى أنجح. فكابد؛ فصار إمام أهل الكوفة في النحو. قوله: (أو تطير له). بالبناء للمفعول؛ أي: أمر من يتطير له، مثل أن يأتي شخص، ويقول: سأسافر إلى المكان الفلاني، وأنت صاحب طير، وأريد أن تزجر طيرك لأنظر: هل هذه الوجهة مباركة أم لا، فمن فعل ذلك؛ فقد تبرأ منه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وقوله: (من تطير) يشمل من تطير لنفسه، أو تطير لغيره. ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن من حديث ابن عباس؛ دون قوله: وقوله: قوله: قوله: قوله: (أو سُحر له)؛ أي: طلب من الساحر أن يسحر له، ومنه النشرة عن طريق السحر؛ فهي داخلة فيه، وكانوا يستعملونها على وجوه متنوعة، منها أنهم يأتون بطست فيه ماء، ويصبون فيه رصاصًا، فيتكون هذا الرصاص بوجه الساحر؛ أي: تكون صورة الساحر في هذا الرصاص، ويسمونها العامة قال البغوي: (1) وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. عندنا (صب الرصاص)، وهذا من أنواع السحر المحرم، وقد تبرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فاعله [تقدم (ص 540).]. الشاهد من هذا الحديث: قوله: (ومن أتى كاهنًا ...) إلخ، وقوله: (ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد جيد من حديث ابن عباس ...) إلخ؛ فيكون هذا مقويًا للأول. * قوله: (قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات ...). العراف: صيغة مبالغة فإما أن يراد بها الصيغة، وإما أن يراد بها النسبة. وهو الذي يدعى معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها. وظاهر كلام البغوي رحمه الله: أنه شامل لمن ادعى معرفة المستقبل والماضي؛ لأن مكان المسروق يعلم بعد السرقة، وكذلك الضالة قد حصل وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق) [مجموع الفتاوى (35/137).] الضياع، ولكن المسألة ليست اتفاقية بين أهل العلم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وقيل: هو)؛ أي: العراف الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. قوله: (وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير)؛ أي: أن تضمر شيئًا فتقول: ما أضمرت؟ فيقول: أضمرت كذا وكذا. أو المغيبات في المستقبل، تقول: ماذا سيحدث في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني؟ ماذا ستلد امرأتي؟ متى يقدم ولدي؟ وهو لا يدري. والخلاصة: أن العلماء اختلفوا في تعريف العراف؛ فقيل: هوالذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها؛ فيكون شاملًا لمن يخبر عن أمور وقعت. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. * * * قوله: (وقال أبو العباس ابن تيمية). هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، يكنى بأبي العباس، ولم يتزوج، ولم يتركه من باب الرهبانية، ولكنه والله أعلم كان مشغولًا بالجهاد العلمي مع قلة الشهوة، وإلا لو كان قوي الشهوة لتزوج، وليس كما يدعي المزورون أن له ولدًا مدفونًا إلى جانبه في دمشق؛ فإنه غير صحيح قطعًا. وظاهر كلام الشيخ: أن شيخ الإسلام جزم بهذا، ولكن شيخ الإسلام قال: وقيل العراف، وذكره بقيل، ومعلوم أن ما ذكر بقيل ليس مما يجزم بأن الناقل يقول به، صحيح أنه إذا نقله ولم ينقضه؛ فهذا دليل على أنه ارتضاه. وعلى كل حال؛ فشيخ الإسلام ساق هذا القول وارتضاه، ثم قال: ولو قيل: إنه اسم خاص لبعض هؤلاء الرمال والمنجم ونحوهم؛ فإنهم يدخلون فيه بالعموم المعنوي؛ لأن عندنا عموما معنويا، وهو ما ثبت عن طريق القياس، وعموما لفظيا، وهو ما دل عليه اللفظ، بحيث يكون اللفظ شاملا له. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات. الحال الأولى: أن يستخدم في طاعة الله، كأن يكون له نائبا في تبليغ الشرع؛ فمثلا: إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم، ويتلقى منه، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس، فيستخدم في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعا؛ فهذا لا بأس به، بل إنه قد يكون أمرا محمودا أو مطلوبا، وهو من الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ والجن حضروا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرأ عليهم القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء؛ لأن المنذر لابد أن يكون عالما بما ينذر، عابدا مطيعا لله ـ سبحانه ـ في الإنذار. الحال الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة، قال: فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة؛ صار حراما، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك. ثم ذكر ما ورد أن عمر تأخر ذات مرة في سفره، فاشتغل فكر أبي موسى، فقالوا له: إن امرأة من أهل المدينة لها صاحب من الجن، فلو أمرتها أن ترسل صاحبها للبحث عن عمر، ففعل، فذهب الجني، ثم رجع، فقال: إن أمير المؤمنين ليس به بأس، وهو يسم إبل الصدقة في المكان الفلاني [تقدم (ص 534).]؛ فهذا استخدام في أمر مباح. الحال الثالثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة؛ كنهب أموال الناس وترويعهم، وما أشبه ذلك؛ فهذا محرم، ثم إن كانت الوسيلة شركًا صار شركًا، وإن كانت وسيلته غير شرك صار معصية، كما لو كان هذا الجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان؛ فهذا يكون إثمًا وعدوانًا، ولا يصل إلى حد الشرك. ثم قال: إن من يسأل الجن، أو يسأل الجن، ويصدقهم في كل ما يقولون؛ فهذا معصية وكفر، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ [البخاري: كتاب الخلق/باب صفة إبليس وجنوده.]، وهي: (الله لا إله إلا هوالحي القيوم ...) الآية. وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم: قوله: قوله: (ما أرى من فعل ذلك). ويجوز بفتح الهمزة بمعنى: أعلم، وبالضم بمعنى: ما أظن. وقوله: (أبا جاد). هي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضطغ ... وتعلم أباجاد ينقسم إلى قسمين: الأول: تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجمل، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا بأس به، وما زال أناس يستعملونها، حتى العلماء يؤرخون بها، قال شيخنا عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم: والشهر في شوال يـا ** رب تقبل سعينـــا فقوله: (اغفر لنا) لو عددناها حسب الجمل صارت 1362هـ. وقد اعتنى بها العلماء في العصور الوسطى، حتى في القصائد الفقهية والنحوية وغيرها. ويؤرخون بها مواليد العلماء ووفياتهم، ولم يرد ابن عباس هذا القسم. الثاني: محرم، وهو كتابة (أباجاد) كتابة مربوطة بسير النجوم وحركتها وطلوعها وغروبها، وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض، إما على سبيل العموم؛ كالجدب والمرض والجرب وما أشبه ذلك، أو على سبيل الخصوص؛ كأن يقول لشخص: سيحدث لك مرض أو فقر أو سعادة أو نحس في هذا وما أشبه ذلك؛ فهم يربطون هذه بهذه، وليس هناك علاقة بين حركات النجوم واختلاف الوقائع في الأرض. وقوله: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق). قوله: (خلاق)؛ أي: نصيب. ظاهر كلام ابن عباس أنه يرى كفرهم؛ لأن الذي ليس له نصيب عند الله هو الكافر؛ إذ لا ينفى النصيب مطلقًا عن أحد من المؤمنين، وإن كان له ذنوب عذب بقدر ذنوبه، أو تجاوز الله عنها، ثم صار آخر أمره إلى نصيبه الذي يجده عند الله. ولم يبين المؤلف رحمه الله حكم الكاهن والمنجم والرمال من حيث العقوبة في الدنيا، وذلك أننا إن حكمنا بكفرهم؛ فحكمهم في الدنيا أنهم يستتابوا، فإن تابوا، وإلا؛ قتلوا كفرًا. وإن حكمنا بعدم كفرهم؛ إما لكون السحر لا يصل إلى الكفر، أوقلنا: إنهم لا يكفرون؛ لأن المسألة فيها خلاف؛ فإنه يجب قتلهم لدفع مفسدتهم ومضرتهم، حتى وإن قلنا بعدم كفرهم؛ لأن أسباب القتل ليست مختصة بالكفر فقط، بل للقتل أسباب متعددة ومتنوعة، قال تعالى: وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَويُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} والنظر في النجوم ينقسم إلى أقسام: الأول: أن يستدل بحركاتها وسيرها على الحوادث الأرضية، سواء كانت عامة أو خاصة؛ فهو شرك إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة للأمور، أو أن لها شركًا؛ فهو كفر مخرج عن الملة، وإن اعتقد أنها سبب فقط؛ فكفره غير مخرج من الملة، ولكن يسمى كفرًا؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إثر سماء كنت من الليل: وقد سبق لنا أن هذا الكفر ينقسم إلى قسمين بحسب اعتقاد قائله [(ص 519).] (2). الثاني: أن يتعلم علم النجوم ليستدل بحركاتها وسيرها على الفصول وأوقات البذر والحصاد والغرض وما أشبهه؛ فهذا من الأمور المباحة؛ لأنه يستعان بذلك على أمور دنيوية. القسم الثالثة: أن يتعلمها لمعرفة أوقات الصلوات وجهات القبلة، وما أشبه ذلك من الأمور المشروعة؛ فالتعلم هنا مشروع، وقد يكون فرض كفاية أو فرض عين.
|